### **"ملحمة المطاريد": جدارية روائية تؤرخ للوجدان المصري عبر خمسة قرون**
في المشهد الأدبي العربي، تبرز أعمال قليلة
تتمتع بالقدرة على تجاوز حدود السرد القصصي لتتحول إلى وثائق إنسانية واجتماعية
شاملة، ترسم بفرشاة الروائي لوحات بانورامية لتاريخ أمم ووجدان شعوب. تنتمي رواية "ملحمة
المطاريد" للكاتب والباحث المصري الدكتور عمار علي حسن، الصادرة في ثلاثة
أجزاء ضخمة عن "الدار المصرية اللبنانية"، إلى هذه الفئة النادرة من
الأعمال الأدبية التي لا تكتفي بسرد حكاية، بل تغوص عميقاً في طبقات الزمن
والتاريخ لتستخرج منها جوهر الروح المصرية في صراعها الأبدي مع القدر، والطبيعة،
والسلطة.
![]() |
### **"ملحمة المطاريد": جدارية روائية تؤرخ للوجدان المصري عبر خمسة قرون** |
1. ما
هو الصراع المحوري الذي تقوم عليه رواية "ملحمة المطاريد"، وكيف أثر على
مصير عائلة "الصوابر" عبر الأجيال؟
2. كيف
نجحت الرواية في ربط حكاية القرية الصغيرة بالتاريخ المصري الكبير الممتد لخمسة
قرون؟
3. إلى
ماذا ترمز رحلة تشتت "الصوابر" وحلمهم الدائم بالعودة إلى أرضهم "الصابرية"؟
4. ما
هي أبرز السمات الفنية، كالبناء الدائري واستخدام الراوي الشعبي، التي منحت
الرواية طابعها الملحمي؟
**البداية الأسطورية تأسيس عالم على أنقاض الطوفان**
لا تبدأ "ملحمة المطاريد" من حدث عادي، بل تنطلق من لحظة تأسيسية ذات طابع أسطوري، تذكرنا بقصص الخلق الكبرى. ففي قرية نائية بصعيد مصر، يضرب فيضان عارم للنيل، فيجرف كل شيء ويهلك الجميع، ولا ينجو من هذا الطوفان الكاسح إلا شاب يُدعى "رضوان" بفضل تدخل رجل غامض، أشبه بولي صالح، يعيش في حديقة معزولة.
- يأخذه هذا الولي إلى ربوة عالية، ويعهد به إلى رجل مجذوب، مانحاً إياه وصايا بأن يبني عالماً جديداً
- من هذا المكان الذي لم تصله المياه. يمنح المجذوب الشاب لقبه الذي سيحمله نسله من بعده: "رضوان
- الصابر"، ليصبح الجد المؤسس لعائلة "الصوابر" وقريتهم التي ستنشأ
من العدم: "نجع المجاذيب".
هذه البداية ليست مجرد تمهيد للأحداث، بل هي مفتاح فهم بنية الرواية بأكملها. إنها تؤسس لفكرة الصمود والمقاومة وإعادة البناء كقيم جوهرية في هوية العائلة. فالأرض التي قامت عليها قريتهم ليست أرضاً موروثة بسهولة، بل هي أرض انتُزعت من فم الفناء، وولدت من رحم الكارثة، مما يمنحها قدسية خاصة في وجدان أبنائها، ويجعل من الصراع عليها لاحقاً صراعاً وجودياً بامتياز.
**صراع الجذور والهيمنة "الصابرية" في مواجهة "الجابرية"**
سرعان ما يتحول هذا العالم الصغير إلى مسرح
لصراع ملحمي بين الخير والشر، أو بين الحق الأصيل والقوة الغاشمة. يتمثل هذا
الصراع في عائلتين: "الصوابر"، بناة القرية الأصليون، و"الجوابر"،
الذين يصل جدهم "إبراهيم الجابر" كضيف، لكن نسله يسعى تدريجياً إلى
الهيمنة والسيطرة. يبلغ الصراع ذروته حين يتمكن "الجوابر" من تغيير اسم
القرية من "الصابرية" إلى "الجابرية"، في إعلان رمزي لاغتصاب
التاريخ والجذور.
من هذه اللحظة، تبدأ "تغريبة" الصوابر، حيث يتشتت أبناء العائلة في بقاع مصر المختلفة، حاملين
معهم جرح الاقتلاع وحلم العودة. يصبح هذا الحلم هو المحرك الرئيسي للأحداث عبر الأجيال، وهو
ما يمنح الرواية بعدها الملحمي الحقيقي.
- فكل جيل من "الصوابر" يرث عن سابقه مهمة استعادة الأرض والاسم، ليس كقطعة عقارية، بل
- كرمز للكرامة والهوية والتجذر في التاريخ. وقد استلهم الكاتب بوضوح بنية السير الشعبية الكبرى
- مثل سيرة أبي زيد الهلالي، في تصوير هذا الصراع الأزلي، حيث يمثل "الصوابر" معسكر بني
- هلال، ويمثل "الجوابر"
معسكر دياب بن غانم.
**التاريخ الكبير في مرآة القرية الصغيرة**
تتجلى عبقرية عمار علي حسن في قدرته على نسج
التاريخ المصري الكبير داخل خيوط حكاية القرية الصغيرة. فالرواية تمتد زمنياً عبر
خمسة قرون، من أواخر عصر المماليك، مروراً بالحكم العثماني، والحملة الفرنسية،
وصعود محمد علي باشا، ثم حفر قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل، والثورة
العرابية، وصولاً إلى الاحتلال الإنجليزي والحرب العالمية الأولى.
- لا تُقدَّم هذه الأحداث الكبرى كخلفية تاريخية جامدة، بل تظهر آثارها المباشرة والعميقة على حياة
- الفلاحين في "الصابرية". نرى كيف استنزفت أنظمة الحكم المتعاقبة دماء الفلاحين بالضرائب
- الباهظة والإتاوات، سواء على يد الملتزمين في العصرين المملوكي والعثماني أو جباة الحكومة في
- العصر الحديث.
كما يكشف السرد عن بنى الفساد المتجذرة، كما في واقعة دفع أحد الأعيان
رشوة لإعفاء فلاحي أرضه من السخرة في حفر قناة السويس، ثم قيام ابنه المستهتر بدفع
رشوة أخرى لإرسالهم قسراً إلى الحفر حتى تبور الأرض ويتمكن من بيعها.
- في المقابل، لم يكن أهل القرية مجرد ضحايا سلبيين. فقد تجلت المقاومة في شخصيات محورية مثل
- "جعفر الصابر" الذي انضم إلى الثورة العرابية واستشهد في معركة التل الكبير، وابنه "ناجي"
- الأزهري المتعلم الذي حارب الفساد في القضاء وواجه الاستعمار بالانضمام إلى الجمعية التشريعية
- ودعم سعد زغلول. وبهذا، تصبح القرية النائية مختبراً مصغراً للوطن بأكمله، يعكس تحولاته
- وصراعاته وآماله وإحباطاته.
**جغرافيا الروح خريطة الشتات والعودة**
يتشابك الزمان مع المكان في "ملحمة
المطاريد" ليشكلا معاً خريطة رمزية لرحلة العائلة. القرية الأم، "الصابرية"،
هي المركز، هي الجنة المفقودة والفردوس المستعاد. أما رحلة الشتات، فتتخذ اتجاهات
ذات دلالات عميقة:
* **الاتجاه
شمالاً (المنيا والقاهرة):** يمثل الأمل وإعادة بناء القوة. هناك، ينمو فرع
العائلة الذي يعود منه "سالم" كأحد الأعيان، وهناك يتلقى الأبناء العلم
في الأزهر الشريف، مكتسبين نفوذاً جديداً.
* **الاتجاه
جنوباً وغرباً (إسنا والصحراء الغربية):** يمثل الكمون والانحسار في أزمنة الضعف
والفقر، والاختباء من بطش السلطة أو الخصوم.
* **الاتجاه
شرقاً (جبال البحر الأحمر):** يمثل اللجوء إلى عالم المطاريد و"الفلاتية"،
وهو عالم موازٍ خارج عن سلطة الدولة، يعيش على قوانينه الخاصة، ويرتبط بالبحث عن
الذهب والمغامرة والمخاطرة.
هذه التحركات الجغرافية ليست مجرد تنقلات، بل هي
انعكاس للحالة النفسية والاجتماعية للعائلة في مراحل صعودها وهبوطها.
**شخوص الملحمة أعمدة السرد وقناديل الروح**
تزخر الرواية بشخصيات مرسومة بعناية فائقة، تمثل نماذج إنسانية خالدة. فإلى جانب السلسلة الطويلة لرجال عائلة "الصوابر" الذين يحمل كل منهم عبء مرحلته، تبرز شخصيات نسائية قوية ومؤثرة، وعلى رأسهن "عبلة"، ابنة "الجوابر" التي تتزوج من "الصوابر" وتصبح ضمير العائلة وعقلها المدبر، منحازةً للحق والعدل على حساب عصبيتها القبلية.
- كما يبرز دور "المجاذيب" الذين يتوارثون الزاوية التي بدأت منها الحكاية، فهم يمثلون البعد الصوفي
- والروحي النقي، ويقدمون النصح والرؤى الغامضة التي ترشد أبطال الرواية، مشكلين بذلك قطباً
- إيجابياً في مواجهة المشايخ الرسميين المرتهنين للسلطة.
**البنية الفنية حكي دائري ونبرة شعبية**
اعتمد عمار علي حسن في بناء ملحمته على تقنيات سردية تخدم طابعها الملحمي. فالراوي هو الراوي العليم الذي يتخذ نبرة "الراوي الشعبي"، وكأنه يحكي السيرة في حلقة من المستمعين، وهو ما يمنح السرد طابعاً حميمياً وجماعياً.
- كما أن البنية الزمنية للرواية دائرية بامتياز، فالتاريخ يعيد نفسه في أنماط متكررة: الفيضان الذي يبدأ
- به السرد يتكرر، وخطف الطفل "سالم" في بداية تاريخ العائلة يتكرر في نهاية الملحمة مع خطف
- الطفل "رضوان" الأخير
الذي يحمل نفس الوحمة على صدر جده البعيد، وكأن النهاية تعود إلى البداية في دورة لا تنتهي من الفقد والأمل. ويُعزز هذا الطابع الشعبي إنهاء كل فصل ببيتين من الشعر يلخصان ما مضى ويمهدان لما هو آتٍ.
** تأريخ للذاكرة وكفاح من أجل الحق**
"ملحمة المطاريد" هي أكثر من مجرد رواية؛ إنها مشروع أدبي طموح نجح في أن يكون تاريخاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً للمجتمع المصري، خاصة لفقرائه وفلاحيه، على مدار قرون طويلة. إنها رواية عن الحب والكراهية، الخير والشر، الذاكرة والنسيان، ولكنها في جوهرها قصة كفاح كل أصحاب الحقوق الذين أجبروا على ترك أراضيهم تحت وطأة الظلم، وظلوا يحلمون بالعودة.
الختام
إنها شهادة روائية على أن الجذور أعمق من أي قوة غاشمة، وأن حلم العودة، مهما طال
الزمن، يظل قابلاً للتحقق بالكفاح والعمل والعلم والتخطيط، تماماً كما فعل "الصوابر"
جيلاً بعد جيل.